الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»
.تفسير الآية رقم (60): {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60)}{خَبِيرًا وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسجدوا للرحمن} القائل رسول الله صلى الله عليه وسلم أو الله عز وجل على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام. ولا يخفى موقع هذا الاسم الشريف هنا. وفيه كما قال الخفاجي: معنى أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد {قَالُواْ} على سبيل التجاهل والوقاحة {وَمَا الرحمن} كما قال فرعون {وما رب العالمين} [الشعراء: 23] حين قال له موسى عليه السلام {إني رسول من رَّبّ العالمين} [الأعراف: 104] وهو عز وجل كما يؤذن بذلك قول موسى عليه السلام له: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السموات والأرض بَصَائِرَ} [الإسراء: 102]، والسؤال يحتمل أن يكون عن المسمى ووقع بما دون من لأنه مجهول بزعمهم فهو كما يقال للشبح المرئي ما هو فإذا عرف أنه من ذوي العلم قيل من هو، ويحتمل أن يكون عن معنى الاسم ووقوعه بما حينئذ ظاهر. وقيل: سألوا عن ذلك لأنهم ما كانوا يطلقونه على الله تعالى كما يطلقون الرحيم والرحوم والراحم عليه تعالى أو لأنهم ظنوا أن المراد به غيره عز وجل فقد شاع فيما بينهم تسمية مسيلمة برحمن اليمامة فظنوا أنه المراد بحمل التعريف على العهد. وقيل: لأنه كان عبرانيًا وأصله رخمان بالخاء المعجمة فعرب ولم يسمعوه. والأظهر عندي أن ذلك عن تجاهل وأن السؤال عن المسمى ولذا قالوا: {أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا} أي للذي تأمرنا بالسجود له من غير أن نعرفه. فما موصولة والعائد محذوف. وأصل الجملة المشتملة عليه ما أشرنا إليه. ثم صار تأمرنا بسجوده ثم تأمرنا سجوده كأمرتك الخير ثم تأمرناه بحذف المضاف ثم تأمرنا. واعتبار الحذف تذريجًا مذهب أبي الحسن. ومذهب سيبويه أنه حذف كل ذلك من غير تدريج، ويحتمل أن تكون ما نكرة موصوفة وأمر العائد على ما سمعت. ويجوز أن تكون مصدرية واللام تعليلية والمسجود له محذوف أو متروك أي أنسجد له لأجل أمرك إيانا أو أنسجد لأجل أمرك إيانا.وقرأ ابن مسعود. والأسود بن زيد. وحمزة. والكسائي {يأمرنا} بالياء من تحت على أن الضمير للنبي صلى الله عليه وسلم وهذا القول قول بعضهم لبعض {تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ} أي الأمر بالسجود للرحمن. والإسناد مجازي. والجملة معطوفة على {قَالُواْ} أي قالوا ذلك وزادهم {نُفُورًا} عن الايمان وفي اللباب أن فاعل {زَادَهُمْ} ضمير السجود لما روى أنه صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم سجدوا فتباعدوا عنهم مستهزئين، وعليه فليست معطوفة على جواب إذا بل على مجموع الشرط والجواب كما قيل: وفي لا يستقدمون من قوله تعالى: {فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34] والأول أولى وأظهر..تفسير الآية رقم (61): {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61)}{تَبَارَكَ الذي جَعَلَ فِي السماء بُرُوجًا} الظاهر أنها البروج الإثنا عشر المعروفة. وأخرج ذلك الخطيب في كتاب النجوم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وهي في الأصل القصور العالية وأطلقت عليها على طريق التشبيه لكونها للكواكب كالمنازل الرفيعة لساكنيها ثم شاع فصار حقيقة فيها، وعن الزجاج أن البرج كل مرتفع فلا حاجة إلى التشبيه أو النقل. واشتقاقه من التبرج عنى الظهور، والذي يقتضيه مشرب أهل الحديث أنها في السماء الدنيا ولا مانع منه عقلًا لاسيما إذا قلنا بعظم ثخنها بحيث يسع الكواكب وما تقتضيه على ما ذكره أهل الهيئة وهي عندهم أقسام الفلك الأعظم المسمى على ما قيل بالعرش ولم يرد فيما أعلم إطلاق السماء عليه وإن كان صحيحًا لغة سميت بأسماء صور من الثوابت في الفلك الثامن وقعت في محاذاتها وقت اعتبار القسمة وتلك الصور متحركة بالحركة البطيئة كسائر الثواب، وقد قارب في هذه الأزمان أن تخرج كل صورة عما حاذته أولًا وابتداؤها عندهم من نقطة الاعتدال الربيعي وهي نقطة معينة من معدل النهار لا تتحرك بحركة الفلك الثامن ملاقية لنقطة أخرى من منقطة البروج تتحرك بحركته وإذا لم يتحرك مبدأ البروج بتلك الحركة لم يتحرك ما عداها، وقد جعل الله تعالى ثلاثة منها ربيعية وهي الحمل. والثور. والجوزاء وتسمى التوأمين أيضًا، وثلاثة صيفية وهي السرطان. والأسد والسنبلة وتسمى العذراء أيضًا وهذه الستة شمالية. وثلاثة خريفية وهي الميزان. والعقرب. والقوس ويسمى الرامي أيضًا، وثلاثة شتوية وهي الجدي. والدلو. ويسمى الدالي وساكب الماء أيضًا. والحوت تسمى السمكتين وهذه الستة جنوبية، ولحلو الشمس في كل من الأثني عشر يختلف الزمان حرارة وبرودة الليل والنهار طولًا وقصرًا وبذلك يظهر بحكم جري العادة في عالم الكون والفساد آثار جليلة من نضج الثمار وإدراك الزروع ونحو ذلك مما لا يخفى، ولعل ذلك هو وجه البركة في جعلها.وأما ما يزعمه أهل الأحكام من الآثار إذا كان شيء منها طالعًا وقت الولادة أو شروع في عمل من الأعمال أو وقت حلول الشمس نقطة الحمل الذي هو مبدأ السنة الشمسية في المشهور فهو محض ظن ورجم بالغيب وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في ذلك مفصلًا، ولهم في تقسيمها إلى مذكر ومؤنث وليلي ونهاري وحار وبارد وسعد ونحس إلى غير ذلك كلام طويل ولعلنا نذكر شيئًا منه بعد أن شاء الله تعالى، ومن أراده مستوفى فليرجع إلى كتبهم، ثم الظاهر أن البروج المجعولة مما لا دخل للاعتبار فيها، والمذكور في كلام أهل الهيئة أنها حاصلة من اعتبار فرض ست دوائر معلومة قاطعة للعالم فيكون للاعتبار دخل فيها وإن لم تكن في ذلك كأنياب الأغوال لوجود مبدأ الانتزاع فيها فإن كان الأمر على هذا الطرز عند أهل الشرع بأن يعتبر تقسيم ما هي فيه إلى اثنتي عشرة قطعة وتسمى كل قطعة برجا فالظاهر أن المراد بجعله تعالى إياها جعل ما يتم به ذلك الاعتبار ويتحقق به أمر التفاوت والاختلاف بين تلك البروج، وفيه من الخير الكثير ما فيه، وقيل: إن في الآية إيماء إلى أن اعتبار التقسيم كان عن وحي، والمشهور أن من اعتبر ذلك أولًا هرمس وهو على ما قيل ادريس عليه السلام فتأمل.وأخرج عبد بن حميد عن قتادة أن البروج قصور على أبواب السماء فيها الحرس، وقيل: هي القصور في الجنة، قال الأعمش: وكان أصحاب عبد الله يقرؤون في السماء قصورًا، وتعقب بأنه يأباه السياق لأن الآية قد سيقت للتنبيه على ما يقوم به الحجة على الكفرة الذين لا يسجدون للرحمن جل شأنه وبيان أنه المستحق للسجود ببيان آثار قدرته سبحانه وكماله جل جلاله، والظاهر أن يكون ذلك بذكر أمور مدركة معلومة لهم وتلك القصور ليست كذلك، وأخرج ابن جرير. وابن المنذر عن مجاهد أنها النجوم، وروي ذلك عن قتادة أيضًا، وعن أبي صالح تقييدها بالكبار وأطلق عليها ذلك لعظمها وظهورها لاسيما التي من أول المراتب الثلاثة للقدر الأول من الأقدار الستة.وأنت تعلم أنه لم يعهد إطلاق البروج على النجوم فالأولى أن يراد بها المعنى الأول المروى عن ابن عباس الذي هو أظهر من الشمس {وَجَعَلَ فِيهَا} أي في السماء، وقيل: في البروج {سِرَاجًا} هي الشمس كقوله تعالى: {وَجَعَلَ الشمس سِرَاجًا} [نوح: 16] وقرأ عبد الله. وعلقمة. والأعمش. والأخوان {سِرَاجًا} بالجمع مضموم الراء، وقرأ الأعمش أيضًا. والنخعي. وابن وثاب كذلك إلا أنهم سكنوا الراء وهو على ما قيل من قبيل: {إِنَّ إبراهيم كَانَ أُمَّةً} [النحل: 120] لأن الشمس لعظمها وكمال إضاءتها لأنها سرج كثيرة أو الجمع باعتبار الأيام والمطالع، وقد جمعت لهذين الأمرين في قول الشاعر:وعلى هذا القول تتحد القراءتان، وقال بعض الأجلة: الجمع على ظاهره، والمراد به الشمس والكواكب الكبار، ومنهم من فسره بالكواكب الكبار، واعترض على الأول بأنه يلزم تخصيص القمر بالذكر في قوله تعالى: {وَقَمَرًا مُّنِيرًا} بعد دخوله في السرج، والمناسب تخصيص الشمس لكمال مزيتها على ما سواها. ورد بأنه بعد تسليم دخوله في السرج خص بالذكر لأن سنيهم قمرية ولذا يقدم الليل على النهار وتعتبر الليلة لليوم الذي بعدها فهم أكثر عناية به مع أنه على ما ذكره يلزمه ترك ذكر الشمس وهي أحق بالذكر من غيرها والاعتذار عنه بأنها لشهرتها كأنها مذكورة ولذا لم تنظم مع غيرها في قرن لا يجدي.والقمر معروف ويطلق عليه بعد الليلة الثالثة إلى آخر الشهر، قيل: وسمي بذلك لأنه يقمر ضوء الكواكب، وفي الصحاح لبياضه. وفي وصفه ما يشعر بالاعتناء به. وعلى الفرق المشهور بين الضوء والنور يكون في وصفه نيرًا دون مضيئًا إشارة إلى أن ما يشاهد فيه مستفاد من غيره وهو الشمس بل قال غير واحد: إن نور جميع الكواكب مستفاد منها وإن لم يظهر اختلاف تشكلاته بالقرب والبعد منها كما في نور القمر.وقرأ الحسن. والأعمش. والنخعي. وعصمة عن عاصم {وَقَمَرًا} بضم القاف وسكون الميم؛ واستظهر أبو حيان أنها لغة في القمر كالرشد والرشد والعرب والعرب، وقيل: هو جمع قمراء وهي الليلة المنيرة بالقمر والكلام على حذف مضاف أي وذا قمر أي صاحب ليال قمر، والمراد بهذا الصاحب القمر نفسه ويكون قوله سبحانه: {مُّنِيرًا} صفة لذلك المضاف المحذوف لأن المحذوف قد يعتبر بعد حذفه كما في قول حسان رضي الله تعالى عنه: فإنه يريد ماء بردى ولذا قال يصفق بالياء من تحت ولو لم يراع المضاف لقال تصفق بالتاء. .تفسير الآية رقم (62): {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)}{وَهُوَ الذي جَعَلَ اليل والنهار خِلْفَةً} أي ذوي خلفة يخلف كل منهما الآخر بأن يقوم مقامه فيما ينبغي أن يعمل فيه. وروي هذا عن ابن عباس. والحسن. وسعيد بن جبير. وقيل: بأن يعقبه ويجيء بعده وهو اسم للحالة من خلف كالركبة والجلسة من ركب وجلس. ونصبه على أنه مفعول ثان لجعل أو حال إن كان عنى خلق. وجعله بعضهم عنى اختلافًا والمراد الاختراف في الزيادة والنقصان كما قيل أو في الوساد والبياض كما روي عن مجاهد أو فيما يعم ذلك وغيره كما هو محتمل؛ وفي البحر يقال: بفلان خلفة واختلاف إذا اختلف كثيرًا إلى متبرزه. ومن هذا المعنى قول زهير:وقول الآخر يصف امرأة تنتقل من منزل في الشتاء إلى منزل في الصيف دأبًا: انتهى وجوز عليه أن يكون المراد يذهب كل منهما ويجيء كثيرًا. واعتبار المضاف المقدر على حاله وكذا فيما قبله. وفي القاموس الخلف والخلفة بالكسر المختلف. وعليه لا حاجة إلى تقدير المضاف. والمعنى جعلهما مختلفين والإفراد لكونه مصدرًا في الأصل {لّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ} أي ليكونا وقتين للمتذكر من فاته ورده من العبادة في أحدهما تداركة في الآخر، وروي هذا عن جماعة من السلف، وروي الطيالسي. وابن أبي حاتم أن عمر رضي الله تعالى عنه أطال صلاة الضحى فقيل له. صنعت شيئًا لم تكن تصنعه قال: إنه بقي على من وردى شيء فأحببت أن أتمه أو قال: أقضيه وتلا هذه الآية. وكأن التذكر مجاز عن أداء ما فات وهو مما يتوقف الأداء عليه، وفي الكلام تقدير كما أشير إليه. ويجوز أن يكون تقدير معنى لا إعراب {أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} أن يشكر الله تعالى بأداء نوع من العبادة لم يكن وردًا له. وفي مجمع البيان المعنى لمن أراد النافلة بعد أداء الفريضة، ويجوز أن يكون المعنى لمن أراد أن يتذكر ويتفكر في بدائع صنع الله تعالى فيعلم أنه لابد لما ذكر من صانع حكيم واجب الذات ذي رحمة على العباد أو أراد أن يشكر الله سبحانه على ما فيهما من النعم وهو وجه حسن يكاد لا يلتفت لغيره لو لم يكن مأثورًا، والظاهر أن اللام على هذا صلة {جَعَلَ} ولما كان ظهور فائدة ذلك لمن أراد التذكر أو أراد الشكر اقتصر عليه، وجوز أن تكون للتعليل و{أَوْ} للتنويع على معنى الاشتمال على هذين المعنيين أو للتخيير على معنى الاستقلال بكل ولا منع من الاجتماع. وفائدة هذا الأسلوب إفادة الاستقلال ولو ذكر الواو بدلها لتوهم المعية، ولعل في التعبير أولًا بأن والفعل دون المصدر الصريح كما في الشق الثاني مع أنه أخصر إيماء إلى الاعتناء بأمر التذكر فتذكر.وقرأ أبي بن كعب {ءانٍ يَتَذَكَّرُ} وهو أصل ليذكر فابدل التاء ذالا وأدغم. وقرأ النخعي. وابن وثاب. وزيد بن علي. وطلحة. وحمزة {أَن يَذَّكَّرَ} مضارع ذكر الثلاثي عنى تذكر.
|